قانون دستوري
يقوم القانون الدستوري بصفة عامة بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم أو بمعنى آخر ينظم تكوين السلطات العامة وتحديد إختصاصاتها والعلاقة بينها وتحديد حقوق وحريات الأفراد في مواجهة السلطة العامة وذلك في ضوء الاعتبارات الأكاديمية المتبعة في بحوث الفروع القانونية المختلفة بكليات الحقوق والقانون.
وبناءا على ذلك تعد قواعد القانون الدستوري بمثابة القواعد القانونية الرئيسية أو الأساسية في الدولة نظرا لأنها توجد على قمة الهرم القانوني بالدولة وتستمد منها القواعد الأخرى شرعيتها وصحتها : أي ان الأعمال الادارية ( اللوائح والقرارات الفردية والأعمال الادارية المختلفة) لاتكون شرعية وسليمة إلا إذا كانت مطابقة للقوانين والدستور ؛ والقوانين بدورها لاتعد شرعية وسليمة إلا إذا كانت مطابقة للقواعد الدستورية .
ودراسة القانون الدستوري لاتؤدي إلى نتائج قانونية أو تكون لها أهمية أو فائدة الا في نطاق الدولة القانونية : أي تلك الدولة التي يخضع فيها كل من الحاكم والمحكوم للقانون وذلك أيا كان شكل الدولة أو نظام الحكم فيها. وذلك لأن القانون الدستوري هو الذي يحدد السلطات العامةفي الدولة واختصاص كل منها ( وترتيبا على ذلك حدود كل منها ) وعلاقة كل منها بالأخرى وأخيرا حقوق وحريات المواطنين أمام الحاكم، فإذا كان هذا هو المقصود ؛ فإن قواعد القانون الدستوري من هذا المنطلق تعد القواعد الأساسية في كل دولة معاصرة ، كما تعتبر من باب أولى ومنطقيا ؛ انعكاسا لمجموعةالعوامل الثقافية والاقتصادية والسياسية والدينية وتعبيرا عن العلاقات الإجتماعية السائدة بين الحاكم والمحكوم وتعد صدى للظروف البيئية والمناخية السائدة في دولة ما. لأن القانون الدستوري بطبيعته يعد إنعكاسا لحاجات الدولة والفرد في داخل المجتمع المنظم - في شكل دولة في الوقت الراهن- وبما أن القانون الدستوري يمثل القانون الأساسي في الدولة فهو يمثل - في حالة صدوره بطريقة ديمقراطية شرعية- ظروف الدولة المطبق فيها ويعد ملبيا لاحتياجات الأفراد والصالح العام على طرفي السوية في هذه الدولة.
مدلول القانون الدستوري
The Signification of Constitutional law
( ملاحظة مهمة :هذه المقالة جزء من رسالة الدكتوراه للدكتور حسن مصطفى البحري( أستاذ القانون الدستوري بجامعة دمشق/كلية الحقوق ) بعنوان الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كضمان لنفاذ القاعدة الدستورية " دراسة مقارنة " جامعة عين الشمس/2005ـ2006 ) تمهيد وتقسيم : يمثل القانون الدستوري( ) Droit Constitutionnel أحد فروع القانون العام الداخلي ، ولدراسته في واقع الأمر أهمية بالغة باعتباره القانون الذي ينظم العلاقة بين السلطة والحرية من خلال تنظيمه للسلطات العامة في الدولة ، وعلى الرغم من تلك الأهمية ، فإن اصطلاح القانون الدستوري يعد حديث الظهور في الدراسات القانونية المختلفة ، فقد عرف هذا الاصطلاح لأول مرة في فرنسا سنة 1834م على يد جيزو Guizot الذي كان وزيراً للمعارف في عهد حكومة الملك لويس فيليب ، حيث قرر إنشاء أول كرسى للقانون الدستوي في كلية الحقوق بجامعة باريس . غير أن هذا الكرسى لم يكتب له البقاء طويلاً ، حيث ألغي مع قيام الامبراطورية الفرنسية الثانية بزعامة لويس نابليون سنة 1852 ، واستبدل به " كرسى القانون العام " ، حيث امتزجت فيه الدراسات الدستورية والإدارية معاً ، إلا أنه مع قيام الجمهورية الثالثة سنة 1875, عاد اصطلاح القانون الدستوري إلى الظهور مرة أخرى كمادة مستقلة ، وتقرر تدريسه في قسم الدكتوراه عام 1882 ، وفي قسم الليسانس عام 1889 ، ومنذ ذلك التاريخ استقر اصطلاح القانون الدستوري في فرنسا ؛ ومن الجامعات الفرنسية انتقلت هذه المادة إلى بقية الجامعات في العالم ، ومنها الجامعات المصرية ( منذ صدور دستور سنة 1923 ) والتي من خلالها انتقلت إلى بقية الجامعات العربية, ومنها الجامعات السورية تحت اسم القانون الدستوري والنظم السياسية . وتشير المعاجم اللغوية إلى أن كلمة " دستور " فارسية الأصل ، ومن معانيها في اللغة العربية التأسيس Establishment or Institution والتكوين و الإنشاء Composition و القاعدة التي يعمل بمقتضاها Rule أو مجموعة القواعد المتعلقة بنظام الحكم Set of governing principles ؛ ويقابلها في اللغتين الإنجليزية والفرنسية بنفس المعنى اصطلاح Constitution .
وبوجه عام ، يمكن القول بأن كلمة دستور تستخدم للدلالة على القواعد الأساسية التي يقوم عليها كل تنظيم من التنظيمات ، إبتداءً من الأسرة والجمعية والنقابة ، وإنتهاء بالدستور العام للدولة ؛ وطبقاً لهذا المعنى ، يعرف القانون الدستوري بأنه مجموعة القواعد القانونية التي تنظم أسس تكوين الدولة ومقومات بنائها ، والقواعد التي يقوم عليها نظامها .
ومن الواضح أن الأخذ بهذا المعنى اللغوي لكلمة دستور سيؤدي إلى تعريف القانون الدستوري تعريفاً واسعاً بحيث يمتد إلى كل الموضوعات التي تتعلق بوجود الدولة ومقوماتها وعناصر تكوينها وشكلها, مما يجعل هذا القانون لا يقتصر على بيان نظام الحكم في الدولة فقط, وإنما يمتد ليشمل نظامها الإداري والقضائي ، وأيضاً قوانين الجنسية في الدولة( ).
ولمّـا كان المعنى الـلغوي للقانون الدستوري ـ الذي يعطي مفهوماً واسعاً له ـ يتعارض مع الوضع العملي للدراسات الجامعية التي لا تتعرض لدراسة القانون الدستوري طبقاً لهذا المعنى ؛ فإن البحث في تعريف القانون الدستوري وتحديد معناه انحصر في الفقه الدستوري في معيارين اثنين : المعيار الشكلي أو العضوي ، والمعيار الموضوعي أو المادي .
وسنتناول بالدراسة فيما يلي مدلول القانون الدستوري وفقاً للمعيارين السابقين ( الشكلي والموضوعي ) ، وذلك من خلال فرعين أساسيين وفقاً لما يلي : الفرع الأول
المعيار الشكلي
The Formal Criterion تمهيد وتقسيم : لقد كان لحركة تدوين الدساتير في العالم ، والتي بدأت بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1787 م ، ثم في فرنسا بعد الثورة سنة 1791 م ، وانتشرت بعد ذلك إلى بقية دول العالم ، أثر كبير في تعريف القانون الدستوري ، حيث ارتبط تعريفه بمصدر القاعدة القانونية والإجراءات التي تتبع في وضعها أو تعديلها ، وأصبح القانون الدستوري مرادفاً لمجموعة القواعد القانونية الواردة بالوثيقة المسماة بالدستور( ) . وعلى الرغم من أن هذا المعيار يتميز بالبساطة والوضوح ، إلا أنه وجه إليه الكثير من أوجه النقد التي أوضحت عدم كفايته كمعيار محدد وثابت لتعريف القانون الدستوري .
وترتيباً على ما تقدم ، سنتناول بالدراسة المعيار الشكلي في تعريف القانون الدستوري من خلال بيان مضمون هذا المعيار ( أولاً ) ثم تقدير هذا المعيار ( ثانياً ) ، وذلك وفق الآتي :
أولاً ـ مضمون المعيار الشكلي : ينصرف المعيار الشكلي في تعريف القانون الدستوري إلى الشكل أو المظهر الخارجي الذي تتجسد فيه القاعدة القانونية ، وكذلك شكل الجهة التي أصدرتها ، والإجراءات التي اتبعت في وضعها أو تعديلها ، وعلى ذلك يقصد بالقانون الدستوري طبقاً لهذا المعيار " مجموعة القواعد القانونية التي تتضمنها الوثيقة الدستورية ـ التي تضعها هيئة خاصة يختلف تكوينها باختلاف الدساتير ويطلق عليها اسم السلطة التأسيسية أو المؤسِّسة ـ ويتبع في وضعها وتعديلها إجراءات خاصة مشددة تختلف عن إجراءات القوانين العادية "( ) .
وعلى هذا النحو يعني القانون الدستوري تبعاً للمعيار الشكلي الوثيقة الدستورية ذاتها بما تتضمنه من أحكام وقواعد ، ويترتب على ذلك وجوب إعتبار كل قاعدة منصوص عليها في صلب هذه الوثيقة قاعدة دستورية ، بينما لا تعتبر كذلك كل قاعدة لم تتضمنها هذه الوثيقة حتى ولو كانت من حيث طبيعتها أو في جوهرها قاعدة دستورية ( ).
ويخلص الفقه الدستوري تبعاً لما سبق إلى القول بأن الأخذ بالمعيار الشكلي في تعريف القانون الدستوري من شأنه أن يؤدي إلى الخلط بين مصطلح القانون الدستوري وبين اصطلاح قانون الدستور المطبق في دولة معينة وزمن محدد ، بحيث تنحصر دراسة القانون الدستوري حسب المعيار الشكلي في شرح وتفسير القواعد الوضعية المدونة في وثيقة الدستور ، أي أن معنى القانون الدستوري يتطابق مع مفهوم الدستور أو قانون الدستور( ).
ثانياً ـ تقدير المعيار الشكلي :
على الرغم من وضوح المعيار الشكلي في تعريف القانون الدستوري ، إلا أنه وجه إليه الكثير من أوجه النقد التي أوضحت عدم كفايته في تحديد مدلول القانون الدستوري ؛ ونعرض فيما يلي للمزايا التي يتمتع بها المعيار الشكلي ، وما وجه إليه من انتقادات :
1 ) مزايا المعيار الشكلي :
أ ـ يتسم المعيار الشكلي بالتحديد والوضوح في تعريف القانون الدستوري ، حيث يُعَوّل هذا المعيار ـ كما أسلفنا ـ على مصدر القواعد الدستورية وشكلها وطريقة وضعها وتعديلها ، إذ يلزم أن تكون هذه القواعد ـ التي تتضمنها الوثيقة الدستورية ـ صادرة عن سلطة مختصة هي السلطة التأسيسية ، وبإجراءات خاصة تختلف عن تلك التي تتبع بشأن القواعد العادية التي تصدر عن المشرع العادي .
ب ـ يعتبر هذا المعيار بحق أساس فكرة جمود الدستور وسموّه على غيره من القوانين العادية ، مما يسهل التمييز بين القواعد الدستورية ـ وهي القواعد المدونة في وثيقة الدستور ـ وغيرها من القواعد القانونية الأخرى ، وهي غير المنصوص عليها في الوثيقة ، ويفرض بالتالي على المشرع العادي عدم مخالفة نصوص الدستور فيما يصدره من قوانين( ) . 2 ) عيوب المعيار الشكلي : على الرغم مما يتسم به المعيار الشكلي من مزايا إلا أنه لم يلقَ استحساناً لدى غالبية الفقه الدستوري ، وذلك لما تضمنه من عيوب كثيرة أدت إلى هجره ، وتبني معيار آخر غيره هو المعيار الموضوعي ؛ وتكمن أوجه النقد التي ساقها رجال الفقه لهذا المعيار فيما يلي( ) :
أ ـ المعيار الشكلي يتنكر لوجود دساتير في الدول ذات الدساتير العرفية : فقد رأينا أن المعيار الشكلي لا يتصور وجوده إلا في الدول التي تأخذ بفكرة الدساتير المدونة أو المكتوبة ، ونتيجة لذلك فإن الدول التي لا تعرف الدستور المدون أو المكتوب والتي يحكمها قواعد دستورية عرفية ـ كإنجلترة مثلاً ـ لا يتصور أن يوجد بها قانون دستوري ، مع أن المسلم به أن لكل دولة دستوراً ـ عرفياً كان أم مكتوباً ـ يبين كيفية ممارسة السلطات العامة لوظيفتها في الدولة .
ب ـ المعيار الشكلي يعجز عن إعطاء تعريف صحيح وشامل للقانون الدستوري في دول الدساتير المدونة أو المكتوبة ، إذ إن نظام الحكم في أية دولة لا تحدده النصوص المكتوبة في الوثيقة الدستورية فقط ، وإنما تشترك في هذا التحديد قواعد أساسية أخرى ذات طبيعة دستورية ، ولكنها موجودة في قوانين عادية أو قواعد عرفية غير مدونة . ومن ذلك على سبيل المثال ما جرى عليه العمل في لبنان من أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً ، ورئيس مجلس الوزراء مسلماً سنيّاً ، ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعيّاً ، فهذه قاعدة عرفية استقر عليها العمل رغم أنه لم ينص عليها لا في وثيقة الدستور ولا حتى في قانون عادي .
ج ـ المعيار الشكلي يؤدي إلى تحديد موضوعات القانون الدستوري بصورة تجافي الواقع وتخرج عن مقتضى الوضع السليم : فتارة يتحدد مضمون القانون الدستوري بصورة أوسع مما ينبغي ، وتارة يتحدد بصورة أضيق مما يجب . ♣ فمن ناحية يؤدي هذا المعيار إلى تحديد نطاق القانون الدستوري بصورة توسّع من مفهومه الحقيقي بإضفاء صفة الدستورية على موضوعات تنتفي عنها هذه الصفة ، فكثيراً ما نجد أن وثيقة الدستور لا تقتصر نصوصها على المسائل الدستورية من حيث موضوعها أو جوهرها فحسب ، بل تشتمل كذلك على مسائل ليست دستورية من حيث الموضوع أو الجوهر ، وإنما تتعلق في الواقع بقوانين أخرى عادية ( كقانون العقوبات أو القانون الإداري أو المالي أو المدني مثلاً ) ، ومن ذلك مثلاً أننا نجد أن دستور سنة 1848 في فرنسا كان ينص في المادة الخامسة منه على إلغاء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية ، وفي أمريكا نجد تعديلاً دستورياً صدر عام 1920 بتحريم الخمور وبمعاقبة الاتجار فيها وكذلك تعاطيها( ), فهاتان الحالتان كان يجب النص عليهما في قانون العقوبات لا في الدستور, لأنهما لا تتصلان بتنظيم السلطات العامة في الدولة أو بنظام الحكم ، تلك المسائل توصف عادة أنها " دستورية شكلاً لا موضوعاً ".
ويُرْجِع الفقه حكمة ميل المشرع الدستوري إلى إدراج مثل هذه الموضوعات العادية في صلب الوثيقة الدستورية إلى مجرد الرغبة في أن تتمتع النصوص المنظمة لها بما تتمتع به النصوص الدستورية من ثبات واستقرار وجمود .
♣ ومن ناحية أخرى يؤدي هذا المعيار إلى تحديد نطاق القانون الدستوري بصورة تضيّق من مفهومه ، وذلك بنفي صفة الدستورية عن أحكام تعد دستورية بطبيعتها ؛ فالوثيقة الدستورية وإن كانت تتضمن أغلب القواعد الدستورية من حيث موضوعها أو جوهرها إلا أنها لا تتضمنها جميعاً ، وبعبارة أخرى إن هناك مسائل دستورية من حيث الموضوع نجدها خارج وثيقة الدستور أي أنها لا تشملها ، وذلك مثلاً شأن قانون الانتخاب في أغلب الدول ، وكذلك القواعد الدستورية التي جرى بها العرف ( أي لم ينص عليها لا في وثيقة الدستور ولا في أي تشريع عادي صادر من البرلمان كحق رئيس الدولة في رئاسة مجلس الوزراء إذا شاء في ظل دستور سنة 1923 في مصر ) .
د ـ المعيار الشكلي يتجاهل الفوارق بين النصوص الدستورية وبين واقعها التطبيقي : فمن المعروف والمسلم به أن هناك دائماً فجوة واختلاف بين النص والتطبيق ، أي بين ما هو وارد في نصوص الدستور وما هو مطبق بالفعل في الواقع العملي ، ونتيجة لذلك يشير الفقه إلى أن تحليل الأنظمة الدستورية لبلد ما يجب أن لا يقف عند حد تحليل النصوص تحليلاً نظرياً مجرداً, بل يلزم فضلاً عن ذلك معرفة ما قد يجري عليه العمل فعلاً ، والكيفية التي يتم بها تفسير النصوص وتطبيقها . ومثال الاختلاف بين النص والتطبيق أو بين النظرية والواقع ، ما ينص عليه الدستور المصري الحالي لسنة 1971 في المادة الأولى منه من أن " جمهورية مصر العربية دولة نظامها اشتراكي ... " ، وفي المادة الرابعة من أن " الأساس الاقتصادي لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكي ... " ، وفي المادة الثلاثين من أن " الملكية العامة هي ملكية الشعب ، وتتأكد بالدعم المستمر للقطاع العام ، ويقود القطاع العام التقدم في جميع المجالات ويتحمل المسئولية الرئيسية في خطة التنمية " ، في حين أن القوانين التي صدرت منذ بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين تتجه نحو اقتصاد السوق ، أي الاقتصاد الحر الرأسمالي ، وتشجيع القطاع الخاص والخصخصة( ) .
هـ ـ المعيار الشكلي يعجز عن وضع تعريف موحد للقانون الدستوري : فنظراً للاعتماد على مضمون الوثيقة الدستورية في تعريف القانون الدستوري طبقاً لهذا المعيار الشكلي ، فإن موضوعات ذلك القانون تختلف من بلد إلى آخر ، وكذلك تختلف في نفس البلد من زمن لآخر ، نظراً لاختلاف الظروف السياسية والاقتصادية التي تحيط بوضع كل دستور ؛ ولا شك أن اختلاف تعريف القانون الدستوري باختلاف الزمان والمكان أمر يتعارض مع طبيعة التعريف الذي يجب أن يتضمن طبيعة المعرّف ومضمونه دون تأثر بالظروف العارضة المحيطة به .
ونخلص مما سبق إلى أن المعيار الشكلي بقصره مفهوم القانون الدستوري على ما ورد في الوثيقة الدستورية من أحكام قد ساهم في تحديل مدلول هذا القانون بصورة لا تتفق ومقتضى التحديد السليم ، وبالتالي فهو لا يصلح أن يكون أساساً سليماً يستند إليه في تعريف القانون الدستوري ، وهو ما حمل غالبية الفقه الدستوري إلى هجره ، وتبني معيار آخر غيره هو المعيار الموضوعي ، فهل يصلح هذا الأخير لأن يكون أساساً سليماً يستند إليه في تعريف القانون الدستوري أم لا ؟ هذا ما سنبينه في الفرع التالي :
الفرع الثاني
المعيار الموضوعي
The Objective Criterion تمهيد وتقسيم :
رأينا في الفرع السابق كيف أن الفقه الدستوري في غالبيته قد هجر المعيار الشكلي في تعريف القانون الدستوري ، نظراً لكثرة الانتقادات التي وجهت إليه ، كما بيّنا أيضاً أن الاعتماد على المعيار الشكلي لن يعطيناً تعريفاً محدداً ودقيقاً وموحداً للقانون الدستوري ، إذ سيختلف هذا التعريف من دولة إلى أخرى ، ومن وقت إلى آخر تبعاً لاختلاف الوثيقة الدستورية ، بينما يحتاج القانون الدستوري إلى تعريف ثابت ومنضبط وموضوعي ، وهذا لا يتحقق إلا بالأخذ بالمعيار المادي أو الموضوعي Material or Objective Criterion .
وترتيباً على ما تقدم ، سنتناول بالدراسة المعيار الموضوعي في تعريف القانون الدستوري من خلال بيان مضمون هذا المعيار ( أولاً ) ثم تقدير هذا المعيار ( ثانياً ) ، وذلك وفق الآتي :
أولاً ـ مضمون المعيار الموضوعي : يعتمد المعيار الموضوعي في تعريف القانون الدستوري على مضمون أو جوهر القواعد القانونية ، بصرف النظر عن الشكل أو الإجراءات المتبعة عند إصدارها ؛ وبناء على ذلك يتضمن القانون الدستوري جميع القواعد القانونية ذات الطبيعة الدستورية أياً ما كان مصدرها ، سواء تضمنتها الوثيقة الدستورية ، أو نُظّمت بقوانين عادية ، أو كان مصدرها العرف الدستوري( ).
ثانياً ـ تقدير المعيار الموضوعي :
لا شك أن تعريف القانون الدستوري تعريفاً موضوعياً يتميز بالعمومية ، فهو لا يربط القانون الدستوري بدستور دولة معينة ، ولا يقتصر على ظروفها الخاصة ، كما أنه يؤدي إلى أن يكون لكل الدول بغير استثناء قانون دستوري ، لأنها جميعها تقيم مجموعة من القواعد لتنظيم السلطة السياسية فيها أياً كان نوع السلطة ، وفضلاً عن ذلك فإنه يؤدي إلى استبعاد القواعد غير الدستورية من دراسة القانون الدستوري حتى ولو نُص عليها في وثيقة الدستور ، ويعتد لذلك بجوهر وطبيعة المسائل التي تعالجها القاعدة الدستورية ، سواء كانت واردة في وثيقة الدستور أو لم ترد فيها( ) .
ورغم دقة المعيار الموضوعي واتساقه مع طبائع الأمور ، لدرجة أن معظم فقهاء القانون الدستوري ـ سواء في فرنسا أو مصر ـ يأخذون به في تعريف القانون الدستوري ويرجّحونه على المعيار الشكلي ، إلا أن الفقه لم يتفق حول نطاق القانون الدستوري بطبيعته ، فعلى الرغم من إتفاق الفقهاء تقريباً حول اعتبار " نظام الحكم " و " تنظيم السلطة السياسية " حَجَرَا الزاوية في تحديد مدلول هذا القانون ، إلا أنهم قد اختلفوا بصدد الطبيعة الدستورية لبعض الموضوعات ، ويكاد ينحصر الخلاف بينهم في موضوعات ثلاثة نبينها بإيجاز فيما يلي :
1 ) موضوع الدولة : اختلف الفقه الدستوري حول طبيعة نظرية الدولة ، وما إذا كانت تدخل ضمن نطاق موضوعات القانون الدستوري أم لا ؟ وفي الإجابة على هذا التساؤل يمكن القول أن الفقه قد انقسم في هذا الشأن إلى اتجاهين مختلفين أحدهما موسع لهذا النطاق والآخر مضيق له : أ ـ ذهب فريق كبير من شرّاح القانون الدستوري إلى إدراج موضوع الدولة ضمن ما يعد دستورياً بطبيعته ، واستند في ذلك إلى حجة مفادها أن القانون الدستوري هو أحد فروع القانون العام الداخلي ، ومن ثم تبرز فيه الدولة بوصفها صاحبة السلطان العام( ).
ب ـ رفض البعض الآخر من الفقه الدستوري الرأي السابق ، ورأى فيه توسعة بغير مقتضى لنطاق القانون الدستوري ؛ وخلص إلى القول بأن نظرية الدولة وأركان وجودها وأشكالها واختلاف نظمها السياسية ، ليست من قبيل الموضوعات ذات الطبيعة الدستورية ، ومن ثم يجب ـ طبقاً لهذا الرأي الذي نؤيده ـ أن تستبعد من إطار الدراسات التي يعنى بها القانون الدستوري ، وذلك لأن دراسة الدولة تهم القانون العام بكل فروعه وليست موضوعاً خاصاً بالقانون الدستوري ، فضلاً عن أن دستور الدولة ليس هو أداة وجود الدولة ، بل وليس هو شرط هذا الوجود ، بل على العكس ، فوجود الدولة هو شرط وجود الدستور ، وهو نتاج هذا الوجود وثمرة من ثماره( ). وينتهي أنصار هذا الاتجاه إلى تعريف القانون الدستوري بأنه : " مجموعة القواعد القانونية الخاصة بنظام الحكم ( أي الحكومة ) في مجتمع سياسي معين في وقت معين "( ), أو أنه " ذلك الفرع من القانون العام الداخلي الذي يحدد نمط نظام الحكم وشكله العام ويبين الهيئات التي تتولى وظيفة الحكم ويرسم الخطوط العامة لعلاقات هذه الهيئات فيما بينها من ناحية وفيما بينها وبين المحكومين من ناحية أخرى "( ) ، أو بأنه " مجموعة القواعد القانونية الخاصة بنظام الحكم في الدولة ( الحكومة ) من الناحية السياسية ، والتي تنظم التعايش السلمي بين السلطة والحرية "( ).
2 ) الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يستند إليها نظام الحكم : على الرغم من اتفاق أنصار المعيار الموضوعي على الاعتراف بالطبيعة الدستورية للقواعد التي تتصل بتنظيم السلطات الحاكمة في الدولة وكيفية ممارستها لوظائفها ، إلا أنهم قد اختلفوا بشأن الطبيعة الدستورية للقواعد المتعلقة بتحديد الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يستند إليها نظام الحكم في الدولة ( ), وذلك ما بين مؤيد ومعارض لها .
أ ـ ذهب جانب من الفقه إلى القول بأن الأهداف والمبادىء والاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يوجهها المشرع الدستوري للسلطات العامة في الدولة كي تسير على هديها في رسم السياسة العامة للدولة في وقت معين لا تعتبر من قبيل الموضوعات الدستورية بطبيعتها ، لأنها مجرد مبادىء لا تنتمي بذاتها إلى أحكام القانون الوضعي, ومن ثم تتجرد من صفة الالزام الفوري ولا تعتبر بالتالي قواعد ملزمة ، ويقتصر دورها على توضيح معالم المجتمع وتوجيه مناهج النظام فيه ، كما أنها بالاضافة إلى ذلك لا علاقة لها بنظام الحكم في الدولة ، ولا تتصل بتنظيم السلطات العامة فيها . وعلى ذلك فإن مضمون القواعد الدستورية يجب أن ينحصر في نطاق السلطة العامة ، من حيث تأسيسها ، وتنظيمها ، وتحديد اختصاصاتها ، وكيفية ممارستها لوظائفها ، وألا يتعدى ذلك إلى المذهب الفكري أو الفلسفي الذي تعتنقه الدولة ( ). ب ـ ذهب جانب آخر من الفقه ـ بحق ـ إلى القول بأن النصوص التي تتضمنها الدساتير عادة وتجسد الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسترشد بها السلطات العامة عند مباشرتها لوظائفها ، إنما هي نصوص دستورية مما يندرج في إطار القانون الدستوري في معناه المادي أو الموضوعي ، وذلك لأن قواعد القانون الدستوري لا تقتصر على تنظيم السلطات العامة في الدولة وكيفية مباشرة كل منها لاختصاصاتها فقط ، وإنما تحدد أيضاً عناصر الأيديولوجية التي يدين بها الدستور أو التي صدر في ظلها ، سواء أكانت أيديولوجية إجتماعية أم سياسية أم اقتصادية ؛ تلك الأيديولوجية تعد بمثابة الموجه أو المرشد لنشاط الدولة ككل ، كما تعد بمثابة الإطار القانوني الذي تُفَسّر ـ أو يجب أن تفسر ـ من خلاله أو على هديه نصوص الدستور ، ولهذا فإن السلطات العامة لا تستطيع أن تحيد عنها ، وإلا عُدّ ذلك انتهاكاً لنصوص الدستور ولروحه ( ).
3 ) قضيتَيْ السلطة والحرية :
من الموضوعات التي ثار الخلاف بصددها بين فقه القانون الدستوري خاصة التقليدي منه مقابلة بالفقه الحديث موضوع السلطة والحرية ، حيث أثير التساؤل حول موقف القانون الدستوري من هذا الموضوع, وما إذا كان يتولى تنظيم السلطة ، أم تنظيم الحرية ، أم أنه يتولى تنظيم الأمرين معاً ؟ في الإجابة على هذا التساؤل يمكن التمييز بين ثلاثة اتجاهات مختلفة( ) :
أ ـ إتجاه يرى أن القانون الدستوري هو وسيلة لتنظيم الحرية :
اتجه الفقه الدستوري التقليدي إلى الربط بين القانون الدستوري والنظام الديمقراطي الحر ؛ حيث ساد الاعتقاد لدى هذا الفقه أن الدستور يرتبط بمضمونه ، وأنه لا يكفي للقول بوجود الدستور أن يتضمن القواعد المنظمة للسلطة السياسية في الدولة ، وإنما يجب أن يتضمن فضلاً عن ذلك القواعد التي تكفل حريات الأفراد وتصون حقوقهم( ). ويتزعم هذا الاتجاه الأستاذ بوريس مركين ـ غتزفيتش Boris Mirkine-Guetzévitch عميد كلية العلوم السياسية بجامعة نيويورك ، حيث عرّف القانون الدستوري ـ في كتاب ظهر له فيما بين الحربين العالميتين بعنوان " الاتجاهات الحديثة في القانون الدستوري " ـ بأنه " فن أو آلية تنظيم الحرية " «Une technique de la liberté» ( ) . وفي الواقع لم يكن هذا الربط من جانب الفقه التقليدي بين الدستور والنظام الديمقراطي الحر وليد الصدفة ، أو بمعنى آخر لم يأتِ هذا الربط من فراغ ، وإنما يستند في أساسه إلى موجة الحركات الدستورية التي انتشرت في بدايات القرن الثامن عشر ، كأثر للفلسفات السياسية التي ارتكزت على أفكار القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي وحقوق الانسان ، وقد استند هذا الفقه إلى الدستور الأمريكي الصادر سنة 1787 ـ أقدم الدساتير المكتوبة ـ الذي وضع على اساس فلسفة المذهب الفردي الحر ؛ كما استند أيضاً إلى إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر إبان الثورة الفرنسية في 26 أغسطس / آب عام 1789 ، وبصفة خاصة ما نصت عليه المادة السادسة عشر منه من أن " أي مجتمع لا تكون فيه الحقوق ( حقوق الأفراد ) مكفولة, أو فصل السلطات محدداً ، هو مجتمع ليس له دستور على الإطلاق "( ) . على هذا النحو كان الربط من جانب الفقه التقليدي بين الدستور والنظام الديمقراطي الحر ، فالدستور لا يوجد في نظره إلا في الدول التي تؤمن بفلسفة ومبادىء المذهب الفردي الحر ، ويقوم الحكم فيها على أسس ديمقراطية تكفل الحقوق والحريات الفردية ، وبالتالي ينتفي وجود الدستور تماماً في الدول ذات الحكم المطلق أو الشمولي( ).
ب ـ إتجاه آخر يرى أن القانون الدستوري هو أداة لتنظيم السلطة : ذهب جانب من الفقه الدستوري الحديث إلى القول بعدم صوابية الرأي الذي نادى به الفقه التقليدي بالربط بين القانون الدستوري والنظام الديمقراطي الحر ، وذلك لأن الفكر التقليدي يضيّق كثيراً من فكرة الدستور والقانون الدستوري ، حيث لا يعترف بوجود دستور في خارج البلاد ذات النظام الديمقراطي النيابي . ولهذا فإن الفقه الدستوري الحديث يتجه في غالبيته إلى هجر الفكرة التي نادى بها الفقه التقليدي ، ويرى أن كل دولة ينطبق عليها شروط قيام الدولة لابدّ وأن يكون لها حتماً وبالضرورة دستور ـ أياً كانت طبيعة نظام الحكم فيها ، وأياً ما كانت الفلسفة التي تدين بها ـ يحدد نظام الحكم فيها ، ويبين السلطات العامة ، وكيفية تكوينها ، واختصاصاتها ، وعلاقاتها ببعضها ، وموقفها إزاء المواطنين ( ). وقد تزعم هذا الاتجاه الفقيه الفرنسي مارسيل بريلو Marcel Prélot الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة باريس ، حيث يرى بأن القانون الدستوري يجب أن يعرّف كأسلوب يتعلق بفن أو بتنظيم السلطة « technique de l'autorité » ، أي أنه القانون الذي عن طريقه يتم تأسيس السلطة السياسية ، ويتحدد كيفية ممارستها وانتقالها في الدولة "( )؛ وقد أيد العميد جورج فيدلLe Doyen Georges Vedel هذا الاتجاه الذي يربط بين القانون الدستوري والسلطة( ).
وبذلك ، يوجد القانون الدستوري ـ طبقاً لهذا الاتجاه ـ في دول النظام الديمقراطي ، وفي دول الحكم المطلق أو الشمولي على حد سواء ، ولم يعد وجود الدستور مقتصراً على البلاد ذات الأنظمة الديمقراطية الحرة ( ).
ج ـ إتجاه يرى أن القانون الدستوري يقوم على التوفيق بين السلطة والحرية :
ظهر اتجاه ثالث في الفقه الدستوري الحديث يهدف إلى التوفيق بين السلطة والحرية La conciliation de l'autorité et de la liberté ، وهذا الاتجاه يتزعمه الأستاذ أندريه هوريو André Hauriou الذي يرى أن القانون الدستوري ـ في جوهره ـ هو فن التوفيق بين السلطة والحرية في إطار الدولة( ) . « Le Droit constitutionnel est essentiellement la technique de la conciliation de l'autorité et de la liberté dans le cadre de l'Etat ». وعلى هذا الأساس ، رفض الأستاذ أندريه هوريو تحديد مهمة القانون الدستوري في تنظيم الحرية فقط ، أو في تنظيم السلطة فقط ، و رأى أن المهمة الأساسية للقانون الدستوري تتحدد في إيجاد الحل التوفيقي بين ضرورة وجود السلطة ، وضرورة ضمان الحريات الفردية ، وذلك لأن ممارسة السلطة ليست غاية في ذاتها ، وإنما هي وسيلة لتحقيق المصلحة العامة ، وبالتالي مصلحة جميع المحكومين ، كما أن الحرية ليست مطلقة بلا حدود ، بل لابد من حدود وضوابط معينة لممارستها بواسطة سلطة منظمة ، وإلا انقلبت بالضرورة إلى نوع من الفوضى Anarchie( ).
ولا شك عندي أن ما ذهب إليه الأستاذ هوريو هو الاتجاه الأقرب إلى المنطق والصواب ، إذ لا يعقل أن تنحصر موضوعات القانون الدستوري في تنظيم السلطة فقط دون أن تتناول القيود التي توضع على هذه السلطة ، والتي تشكل ضمانة لحماية حقوق الأفراد وضمان حرياتهم ، وإلا أصبحت سلطة تحكمية استبدادية ، وذات الشيء أيضاً بالنسبة للحرية ، حيث لا يعقل أن تكون هي محور دراسات القانون الدستوري دون أن توضع حدود وضوابط معينة لكيفية مباشرتها من قبل الأفراد ، وإلا تحولت هذه الحرية بالتالي إلى فوضى .
ولهذا فقد قيل بحق أن الحرية لا تزدهر إلا إذا قامت السلطة برعايتها والدفاع عنها ، والسلطة يجب أن تباشرها الهيئات الحاكمة في حدود معينة لا تجاوزها, وهو ما يقوم به القانون الدستوري حيث يعمل على حماية الحرية والسلطة معاً ، وذلك بإيجاد نوع من التوازن بينهما بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى ، وصولاً إلى تحقيق التعايش السلمي فيما بينهما( ).
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
No comments:
Post a Comment